الاثنين، 9 أبريل 2012

إختار المسامير - قراءات لأسبوع الآلام، الحلقة الثالثة



5. سأحادثُك بلغتِك - الوعد الإلهي في العنوان المعلق على الصليب



وَكَتَبَ بِيلاَطُسُ عُنْوَانًا وَوَضَعَهُ عَلَى الصَّلِيبِ. وَكَانَ مَكْتُوبًا:"يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ مَلِكُ الْيَهُودِ."
(يوحنا 19:19)

إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ.
(رومية 17:10)


 كنت اعرف أهمية قراءة "الإشارات الزوجية" قبل زواجي بزمن.
حكيم هو الرجل الذي يتعلم لغة زوجته الصامتة، ويميز مكنونات الإيماءة والإشارة.
ليس فقط ما تقوله الزوجة شفاهة، ولكن كيف تقوله. ليس فقط كيف، ولكن متى. ليس فقط متى، بل أين. الزوج المثالي هو ذاك الذي يجيد فك الشفرات. ينبغي أن تقرأ الإشارات والعناوين.
كم توهمت في نفسي تلك الإجادة. خاب ظني للأسف.
لم يكن قد مضى الكثير على زواجي، وكان ضيفاً مقيماً لليلة في دارنا.
حين ألمَّتْ زوجتي بالخبر، أعطتني علامة. علامة شفوية: من الأفضل أن ننظف الشقة. الجمعة مساء، صدرت علامة أخرى. علامة معنوية؛ جثت على ركبتيها وأخذت تفرك الأرض بالماء والصابون. الحمد لله والشكر لبديهتي المتقدة، نسقت العلامتين جنباً إلى جنب، فوضعت عني الجريدة، وقمت عن الأريكة.
"أي مساعدة لي أن أقدمها؟" طبعاً – ولأنني الرجل – فقد تنازلت لها عن توافه الأعمال من كنس ومسح، سعياً وراء مهمة بها التحدي والقوة. ووجدت ضالتي ملياً: سأملأ بروازاً بالصور! فمن بين الهدايا القليلة التي وصلتنا لزواجنا، كانت البراويز (الهدية التقليدية لكل المناسبات!). فانتقيت بروازاً لفتني حجمه الكبير، إذ أنه يتسع لما يفوق الخمس عشرة صورة، وشرعت في مهمتي. وبينما كانت زوجتي "تدعك" الأرضية ورائي وفراش غير مرتب إلى جانبي، مددت الصور أمامي.
فاتني فهم العلامة. حين سألتني زوجتي – وبنبرة مريبة – عما أنا بصدده، أجبت مفتخراً: لا شئ. لا تقلقي علي. أنا املأ بروازاً. لم تتفوه حرمي بكلمة لما يزيد على النصف ساعة من بعد ذلك. ولا مشكلة! افترضتها ترفع صلوات شكر قلبية ارتجالية لله، حمداً له على زوج لطيف نبيه مثلي. فقد تخيلتها تبتهل قلبياً: يا رب ضع في قلبه أن يُضَّمِن تلك الصور لقطات الخطوبة.
أول علامة أوحت لي أن شيئاً ليس على ما يرام ظهرت حين قالت لي زوجتي – بعد تنظيف الشقة كاملة وحدها – "عمت مساء. إنني جد حزينة. سأحدثك غداً بإذن الله."

أحياناً تفوتنا العلامات (إلى الآن، هنالك قارئ ساذج برئ القلب يتساءل في هدوء: ولِمَ غضبَتْ حقاً؟ ستتعلم يا صديقي... ستتعلم).


مصمم مصيرنا ملم تمام الإلمام بغلاظة قلوبنا. يعلم الله أن علاماته وإشاراته لنا تفوتنا بين الحين والآخر. فقد يكون هذا سبب علاماته العديدة لنا؛ قوس قزح بعد الطوفان علامة عهده. الختان علامة إثبات شخصية شعبه المختار، والنجوم تصور حجم عائلته. وإلى الآن، نرى علامات في الكنيسة: التناول لذكرى موته وقيامته، والمعمودية للميلاد الجديد. كل من هذه العلامات الحسية يبوق لحقيقة روحية أجَلّ.
وأقوى العلامات تأثيراً كانت على الصليب. علامة ثلاثية اللغات، يدوية الكتابة رومانية التكليف.

وَكَتَبَ بِيلاَطُسُ عُنْوَانًا وَوَضَعَهُ عَلَى الصَّلِيبِ. وَكَانَ مَكْتُوبًا:"يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ مَلِكُ الْيَهُودِ". فَقَرَأَ هذَا الْعُنْوَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ، لأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ يَسُوعُ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ مَكْتُوبًا بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَالْيُونَانِيَّةِ وَالّلاَتِينِيَّةِ. فَقَالَ رُؤَسَاءُ كَهَنَةِ الْيَهُودِ لِبِيلاَطُسَ: "لاَ تَكْتُبْ: مَلِكُ الْيَهُودِ، بَلْ: إِنَّ ذَاكَ قَالَ: أَنَا مَلِكُ الْيَهُودِ!". أَجَابَ بِيلاَطُسُ:"مَا كَتَبْتُ قَدْ كَتَبْتُ". (يوحنا 19:19-22)

لماذا عُلِّقَ عنوان كذلك أعلى رأس المسيح الصلوب؟ ولماذا أثار النص حفيظة اليهود؟ لِمَ رفض بيلاطس تعديل كتابته؟ ولماذا كُتِبَت بثلاث لغات؟ لِمَ ذُكِرَت في الأربعة أناجيل؟ من كل الإجابات المتاحة لتلك الأسئلة، فلنركز على واحدة. أيمكن أن تكون تلك الخشبة علامة على إخلاص الله؟ رمزاً لإصراره على إعلان إبنه للعالم كله؟ تذكرةً بأنه لن يترك أسلوباً أو وسيلة إلا واستغله لإخبارك بمضمون ذلك العنوان؟ فبرأيي أن تلك العلامة تزيح النقاب عن حقيقتين بخصوص إرادة الله في التواصل مع خليقته الإنسان.
لا يوجد إنسان إلا وسيستخدمه

أرجو ملاحظة النتيجة الفعالة التي أتت بها العلامة. أتتذكر قول اللص ديماس؟ قبيل دقائق من نياحته، ووسط إعصار من الألم، يلتفت ضارعاً: "اذْكُرْنِي يَارَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ" (لوقا 42:23).
إنها عبارة غريبة في صياغتها. لم يتوسل اللص قائلاً "انقذني" ولا "ارحم نفسي". كانت صرخته صرخة مملوك لمليكه.
فلِمَ ذكر ديماس ملكوت يسوع المسيح المصلوب جواره؟ ربما سمع عظاته. ربما سمع ما قالع عن أنه ابن الله. وربما – وهذا الأرجح – قرأ العلامة: يسوع الناصري ملك اليهود.

يبدو لوقا البشير وكأنه يربط بين قراءة العلامة واستنجاد اللص بالمسيح. ففي فقرة يقول: "كَانَ عُنْوَانٌ مَكْتُوبٌ فَوْقَهُ بِأَحْرُفٍ يُونَانِيَّةٍ وَرُومَانِيَّةٍ وَعِبْرَانِيَّةٍ:"هذَا هُوَ مَلِكُ الْيَهُودِ" (لوقا 38:23)، وتليها بأربع آيات خاطفة طلبة اللص: "اذْكُرْنِي يَارَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ".
يدرك ديماس اللص أنه في حضرة مَلَكِية. يلتفت فيقرأ بياناً ملكياً ويطلب عوناً ملكياً.
ولوأن هذه حقيقة ما حدث فعلاً، إذاً فقد كانت هذه العلامة التي سطرها بيلاطس أول وسيلة لإعلان رسالة الصليب. وبسب العلامة، نجت نفس بشرية وخلصت.
 لا أعلم إن كانت الملائكة تجري حواراً interview  لدخول السماء، ولكنه من الطريف أن نتخيلها.


يصل اللص إلى مركز السماء للتعبئة والإحصاء.

الملاك: اجلس من فضلك. سيد... ديماس. أيمكن أن تعطيني فكرة سريعة عن كيفية نوالك الخلاص؟
ديماس: صراحة، لم أزد على طلبي من يسوع أن يذكرني في ملكوته. حقاً، لم أتوقع أبداً هذه السرعة!
الملاك: حسناً. وكيف عرفت أنه ملك؟
ديماس: صدقت علامة مثبتة أعلى رأسه "يسوع الناصري ملك اليهود"... وها أنا!
الملاك (يكتب في ملف): صدق... علامة...
ديماس: صحيح. وأظن مَتَّى هو من علقها؟
الملاك: لا أعتقد.
ديماس: إذاً ربما كان برثلماوس؟
الملاك: لم يكن برثلماوس.
ديماس: إذاً فأي التلاميذ علقها؟
الملاك: حقيقةً، العلامة فكرة بيلاطس.
ديماس: غير معقول!! بيلاطس؟!
الملاك (مبتسماً): لا تتعجب هكذا. لقد دعا الله موسى من عليقة، واقنع بلعام بحمارة. ولفتاً لإنتباه يونان استعمل الله سمكة ضخمة! فلا يوجد مخلوق أو إنسان إلا وسيستخدمه. حسناً. هذا كل شئ (يختم ورقاً ويوقع آخراً) خذ هذه الأوراق إلى الشباك الرابع على يسارك. فقط اتبع العلامات المعلقة.

لم يهدف بيلاطس لنشر البشارة بما كتبه، بل كانت علامته تلخيصاً لرأيه: هاكم مصير ملك اليهود. هذا ما نفعله به نحن الرومان. ملك هذه الأمة عبد، لص مصلوب. فما أدراكم رعاياه؟
ولكن القصد الإلهي اختلف. فكان بيلاطس أداة الله لنشر البشارة. ودون وعي منه، صار بيلاطس كاتب السماء، آخذاً الإملاء من الله مسجله على لافتة خشبية. وبدَّلت اللافتة مصير قارئ.
لا يوجد إنسان إلا وسيستخدمهتعمل الله سمكة ضخمة!بحمارة.لناصري ملك اليهود"بيلاطس أول وسيلة لإعلان رسالة الصليب.
 أما الحقيقة الثانية:
ليس من لغة إلا وسيتكلمها
كان بوسع كل مار أمام الصليب أن يقرأ ويفهم العلامة، فكل مارٍ يلم باليونانية أو الرومانية أو العبرانية أو الثلاث – اللغات العظمى في العالم القديم.
فكانت العبرانية لغة إسرائيل، لغة الدين، والرومانية لغة الرومان، لغة الدولة، واليونانية لغة الإغريق، لغة الفكر. وأُعلِنَ المسيح ملكاً في الثلاث.
خص الله كل طرف بالرسالة. المسيح هو الملك. تعددت اللغات والخبر واحد. ولأن المسيح ملك لكل الناس، جاءت الرسالة – وجوباً – بكل اللغات.
لا توجد لغة إلا وسيتكلمها. مما يطرح تساؤلاً: أي لغة تسمعها من الله؟ لا أقصد لهجة أو أخرى، بل الدراما اليومية لحياتك.
الله يتكلم ويحدثنا بأي لغة لنفهمه.
فحيناً يُسمِعُكَ "لغة الوفرة". أشبعان أنت؟ أمسددة فواتيرك وخالصة ديونك؟ أفياض جيبك "فكةً"؟ إذاً فخذ هذه الآية نبراساً: "وَاللهُ قَادِرٌ أَنْ يَزِيدَكُمْ كُلَّ نِعْمَةٍ، لِكَيْ تَكُونُوا وَلَكُمْ كُلُّ اكْتِفَاءٍ كُلَّ حِينٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ، تَزْدَادُونَ فِي كُلِّ عَمَل صَالِحٍ" (2 كورنثوس 8:9).
هل يخاطبك الله بلغة الوفرة؟ أم أنك تسمع لسان الاحتياج؟ يلجأ الله لهذا اللسان أحياناً. فربما نعجز عن فهم مضمون اللغة الأولى.
وقد تسمع أيضاً لغة الألم. كثيراً ما نتفادى هذه اللغة، ولكنها أبلغ لغة يوصل الله لنا بها مكنونات عقله، فندرك معانيها في أروقة المستشفيات وعلى أسِرَّة المرض، لأن لغة الألم أوضح لغة نفهم بها الله!
ينطق الله بكل اللغات – أي بما فيهم لغتك. ألم يقل: "أُعَلِّمُكَ وَأُرْشِدُكَ الطَّرِيقَ الَّتِي تَسْلُكُهَا. أَنْصَحُكَ. عَيْنِي عَلَيْكَ" (مزمور 8:32)؟ ألم يحثنا الكتاب: "اقْبَلِ الشَّرِيعَةَ مِنْ فِيهِ، وَضَعْ كَلاَمَهُ فِي قَلْبِكَ" (أيوب 22:22)؟
أي اللغات تسمعها الآن من الله؟

إنه شئ أن يفوتك فهم علامة من حرمك عن تهذيب حجرة.
شئ آخر – تماماً – أن تفوتك علامة من الله عن مصير أبديتك.
 در أن يزيدكم كل نعمة, لكي تكونوا ولكم كل اكتفاء كل حين في كل شئ,  الآية نبراساً:
غة الإغريق؛ لغة الفكر...وأُعلِنَ المسيح ملكاً
+++

6. تركتُ لك حرية الإختيار - الوعد الإلهي في الصليبين


حَيْثُ صَلَبُوهُ، وَصَلَبُوا اثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مَعَهُ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا، وَيَسُوعُ فِي الْوَسْطِ.
(يوحنا 18:19)


تمهيد:
ربما سمع البعض منا عن الرئيس الأمريكي ابراهام لينكون، ذاك الذي اشتهر بما قام به لمنع الرق قانوناً في بلاده.
تولى لينكون الرئاسة الأمريكية عام 1861 إلى أن اغتاله رمياً بالرصاص الشاب جون بوث في مسرح فورد بواشنطون في أبريل 1865.
القصة التالية حقيقية، وقد ارتأيت التمهيد السابق ضرورياً لتفهم أبعاد هذه القصة.
+++
ادوين بوث. من علامات المسرح الأمريكي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ذاك الرجل، بصوته الجهوري، بات بلا منافس.
ظهرت موهبته الفطرية لأدوار شيكسبير جلية حين قدم دور ريتشارد الثالث عند سن الخامسة عشرة.
عرض هاملت مائة ليلة متتالية في نيويورك.
اقتنص في لندن رضا النقاد الإنجليز المتشددين. باختصار، كان ادوين بوث رب التراجيديا المسرحية الأوروبية.
وعن تراجيديا الحياة. انطبق عليه الوصف ذاته.
كان لإدوين شقيقان: جون وجونيوس. كان الاثنان ممثلين، وإن لم يرتقيا لقامة أخيهما. عام 1863، وحّد الثلاثة قدراتهم الفذة مقدمين يوليوس قيصر.
في تلك المسرحية، جسّد الأخ جون دور بروتوس قاتل يوليوس قيصر.
وفي مسرح فورد عام 1865، لعب جون دور الاغتيال، ضارباً الرئيس الأمريكي بطلقة في أم رأسه.
انقلبت حياة ادوين رأساً على عقب جريمة شقيقه. حمله الخزي على اعتزال المسرح. وربما ما كان له أن يعود لفنه، لولا موقف عارض في محطة قطارات نيوجيرسي.
وقف ادوين يترقب وصول أحد معارفه، وإذ به يرى شابا في الزحام وقد إختل توازنه ليسقط بين الرصيف والقطار المتحرك. بلا تردد، ارتمى ادوين أرضاً، جاذباً الشاب إلى الأمان. وما أن جمع الشاب شتات أفكاره بعد تلك الصدمة، حتى تعرف على الممثل الذائع صيته، فشكره ممتناً بدماثة أخلاق، وانصرف كلٌ لحال سبيله.
ادوين، على العكس، لم يتعرف الشاب. إلى أن حدث ذاك بعد أسابيع، حين تلقى الممثل خطاباً من رئاسة الجمهورية ذاتها، شاكراً جميل صنعه، إذ أنقذ إبن بطل قومي أمريكي من موت محقق.
إسم الشاب؟
روبرت ابراهام لينكولن!
ادوين وجون بوث. نفس الأب والأم والهواية والمهنة – ويختار أحدهما الحياة والآخر الموت. ورغم أن القصة درامية، إلا أن تناقض أفكارها ليس فريداً من نوعه:

هابيل وقايين. إبنا آدم. يختار هابيل الله، ويختار قايين القتل. والله يسمح.
ابراهيم ولوط. تائهان في كنعان. يختار ابراهيم الله، ويختار لوط سدوم. والله يسمح.
داود وشاول. ملكان ممسوحان لبني إسرائيل. يختار داود الله، ويختار شاول السُلطَة. والله يسمح.
بطرس ويهوذا. أنكر الإثنان ربهما. طلب بطرس الغفران، ويختار يهوذا الموت. والله يسمح.
عبر دهور التاريخ، وعلى كل صفحة من صفحات الكتاب المقدس، تتلألأ تلك الحقيقة جلية: يترك الله لنا حرية الإختيار.
وما من أحد يعرض علينا خيرَ الاقتراحات لذاك الاختيار أوضح من السيد المسيح.
فعلى حد قوله، لنا أن نختار:
  • باباً واسعاً أو باباً ضيقاً (متى 13:7-14)
  • طريقاً واسعاً أو طريقاً ضيقاً (متى 13:7-14)

ويمكننا أن نختار:
  • البناء على الصخر أو على الرمل (متى 24:7-27)
  • خدمة الله أو خدمة المال (متى 24:6)
  • أن نحصى مع الجياد أو مع الخراف (متى 32:25-33)

فَيَمْضِي هؤُلاَءِ (الذين رفضوا الله) إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ (متى 46:25).

يعطي الله خيارات أبدية، فهي خيارات عواقبها أبدية.
ألا يذكرنا هذا بالصليب؟ بثلاثية الإقرانيون؟ أما تساءلت عن المغزى وراء الصليبين القائمين بجانب المسيح؟ لمَ لمْ يكونوا ستة أو عشرة؟ ولماذا رُفِعَ يسوع في المنتصف؟ لمَ لمْ يكن على أقصى اليمين أو اليسار؟ أيكون الصليبان على الجبل رمزاً لعطية من أعظم عطايا الله للإنسان؟ عطية الاختيار؟
كم كانت كثيرة أوجه الشبه بين اللصين: نفس التهم. نفس الحكم. نفس العقوبة. كانا محاطين بنفس الجمع. على نفس المسافة من المسيح عينه. حتى لقد بدأ الإثنان بالسخرية ذاتها من المسيح: "وَبِذلِكَ أَيْضًا كَانَ اللِّصَّانِ اللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ يُعَيِّرَانِهِ" (متى 44:27).

لكن أحدهما تغير.
وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلاً:"إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!" فَأجَابَ الآخَرُ وَانْتَهَرَهَُ قَائِلاً:"أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْل، لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ". ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ:"اذْكُرْنِي يَارَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ". فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:"الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ" (لوقا 39:23-43).
لقد قيل الكثير عن طلبة ذلك التائب. ولكن، في غمرة فرحتنا بمن تغير، أننسى ذاك الذي لم يتب؟
ماذا عنه يا ربي المصلوب؟ لماذا لم تدعه دعوة شخصية مثل متى العشار وزكا؟ فأنت يا ربي حتى لم توجه له ولو كلمة واحدة!
ألا يترك الراعي التسعة والتسعين بحثاً عن واحد ضال؟ ألم تكنس ربة البيت الدار كله بحثاً عن درهم واحد مفقود؟ بلى، يترك الراعي القطيع كله، وتكنس ربة البيت الدار كاملاً. لكن -  تذَكَّرْ- أبا الضال لا يفغل شيئاً.
تاه الخروف لسذاجته وجهله بالطريق.
فُقِدَ الدرهم لإهمال صاحبته.
أما الإبن الضال فغادر بيته بإرادته.
وكما أعطاه أبوه الاختيار، أعطى يسوع اللصين نفس الإختيار.

فهنالك أوقات يرعد لنا الله ليحركنا. وأحياناً يمطرنا ببركاته ليغرينا.
ولكن أحياناً يرسل الله الصمت. يسكت الله إكراماً لنا، تاركاً لنا حيثية قضاء أبديتنا.
ويا لها من كرامة! في مساحات شاسعة من حياتنا ليس لنا اختيار. فكرْ في هذا. لم تختر أخواتك أو إخوتك. لم تختر شعبك أو مسقط رأسك.
قد يغضب هذا البعض منا، فيتذمر: هذا ظلم. ظلم أني وُلِدتُ في فقر أو أن صوتي خشن أو أنفي كبير. ولكن، منذ قديم الأزل، ترجح موازين الحياة كفة العدل، حين غرس الله تلك الشجرة في جنة عدن. بطلت كافة الشكاوى حين وهب الله آدم ونسله حرية الإختيار، حرية إتخاذ أي قرار أبدي.
أي شئ يبدو لنا في هذه الحياة ظلماً يقابله كرامة اختيار مصيرنا في الآخرة.
ألا توافقني؟ أتريد عكس ذلك؟ فتختار أنت كل ما يتعلق بهذه الحياة، ويختار هو أبديتك. تختار أنت لون شعرك و بنيتك البدنية وتركيبة حامضك النووي، بينما يختار الله حيثية قضائك الأبدية؟ أهذا ما تفضله؟
ما أجمله من اختيار، لو ترك الله لنا حرية انتقاء تفاصيل حياتنا كما نطلب وجبة جاهزة! أنا عن نفسي سأطلب الصحة الحديدية والذكاء الخارق. لا تهمني الموهبة الموسيقية، وإن لن يضيرني وجودها. ما أجملها من حياة! ولكن هذا لم يحدث. فلم يعطك الله العديد من الاختيارات بشأن حياتك الأرضية.
ولكن عن الحياة بعد الموت، الحياة الأبدية، تُرِكَت لك حرية الإختيار.
هل أُعطينا نعمة أعظم من نعمة الإختيار؟ توازن هذه الميزة أي ظلم. ليس هذا فقط، بل إنها توازن أي أخطاء.
فكرْ في ذلك اللص الذي تاب. رغم أننا لا نعرف سوى القليل عنه، إلا أن ذلك القليل يُعَرِّفنا:
أنه ارتكب أخطاء جسيمة في حياته. اختار الأخلاقيات الخاطئة والصحبة الخاطئة. ولكن حاشا القول أن حياته مهدرة! هل يقضي ديماس اللص أبديته الآن حاصداً ثمار كل تلك الإختيارات الطالحة؟ لا، بل على العكس تماماً. فهو يتمتع الآن بثمرة اختيار صائب واحد. فقد افتدى اختيار سليم واحد كل تلك الإختيارات الطائشة السابقة.
نحن أيضاً بالتأكيد اخترنا اختيارات خاطئة في حاتنا. لم أختر الأصدقاء المناسبين أو العمل المناسب، أو حتى شريك الحياة المناسب.
فهناك من يسرح مع ماضيه متمتماً: لو فقط. لو فقط يمكنني تعويض كل تلك الإختيارات السيئة. نعم يمكنك تعويضها. فاختيار واحد راجح لأبديتك يوازن آلاف الاختيارات الفاشلة على الأرض.
الاختيار لك.
أين لأخين – من نفس التربية والأهل والظروف – أن يتباينا هكذا؟ فيختار أحدهما الحياة الآخر الموت؟ لا أعلم، ولكنه حدث – ولا زال.
أني لرجلين أن يريا يسوع عينه، فيختار أحدهما أن يهزأ به والآخر أن يتضرع له؟
لا أعلم، ولكنه حدث – ولا زال.
ولما صلى أحدهما، أحبه يسوع حتى خلصه.
وحين استهزأ الآخر، أحبه يسوع حتى سمح له.
سمح له بالاختيار.

وهكذا معك.



بقلم: ماكس لوكيدو
تعريب: افرايم القس بنيامين مرجان




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق