الأربعاء، 11 أبريل 2012

إختار المسامير - قراءات لأسبوع الآلام، الحلقة الرابعة



7. لن أتركَك - الوعد الإلهي في الطريق


نَفْتَخِرُ أَيْضًا بِاللهِ، بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي نِلْنَا بِهِ الآنَ الْمُصَالَحَةَ.
 (رومية 11:5)

شَاكِرِينَ الآبَ الَّذِي أَهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِي النُّورِ، الَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ.
(كولوسي 12:1-13)




جلست مريم إبنة الخمس  سنوات في حجر أبيها.
سألها أبوها في وفرة من الإهتمام: أنلتِ كفايتك من الطعام؟
تبسمت الطفلة مربتةً على معدتها: تكاد بطني تنفجر يا بابا!
 - هل جربت الكيكة التي أعدتها جدتك؟
 - أكلت قطعة كاملة!
 وجَّهَ يوسف نظرة امتنان لأمه عبر المائدة: إنك تفسديننا يا أماه! لا أظنني قادراً على فعل شئ غير النوم العميق!
 ضمت مريم وجه أبيها بين كفيها الصغيرتين، قائلةً: لكن بابا، أما وعدتني ببناء المزود – أنا وأنت؟
 تصنَّع يوسف النسيان: حقاً؟ غريب أني لا أذكر شيئاً من هذا القبيل!
 ابتسمت الجدة وهي تنظف المائدة.
-       لكن بابا، نحن دائماً ما نبني المزود معاً – أنا وأنت – كل ليلة عيد. ألا تتذكر؟ أنا وأنت فقط!
 إنفجرت الضحكات من وراء شاربه الكثيف."إلا وأتذكر يا حبيبة بابا. وهل لي أن أنسى؟"

وقام الإثنان. وللحظة – مجرد لحظة متوهجة عابرة – بُعِثَت زوجته حيةً لمرة أخرى، ولم يكن يوسف يعي إلا زوجته بجانبه، يرتبان معاً المزود الصغير.
ربما لقضوا كل عيد ميلاد على ذاك المنوال، لولا مضاعفات حمل الزوجة.
وُلِدَت مريم. ماتت الأم.
وهكذا، صار يوسف مربي الطفلة الوحيد.
 - أسرعْ يا بابا! كانت تجذبه من يده. بك لننهي المزود قبل وصول الأقارب!
 كانت الصبية على حق. حيناً ويأتي الأقارب وتزدحم الدار فتنقضي الليلة.
 أما الآن. بابا ومريم فقط.
+++
حب الوالدين للوليد قوة جبارة. لا يقدم الرضيع لأهله سوى دموعه وصراخه.
لا أموال ولا مهارات ولا خبرات ولا نصائح. ولو وُلِدَ الطفل بجيوب لكانوا فارغين.
متى ترَ رضيعاً في مهده فإنك ترى تجسيداً لأوج العجز.
فماذا يستدعي الحب في الوليد؟     
أياً كان الداعي، يجده بابا وماما.
تأمل وجه الأم أثناء رضاعة طفلها.
لاحظ عيني الأب وطفله كامن في حضنه.
جرب أن تسئ للطفل أو أن تؤذيه تواجه قوة جبارة، لأن حب الوالدين قوة عارمة ساحقة.
لقد سأل يسوعُ مرة، إن كنا ونحن خطاة يفيض بين جوانحنا ذاك الحب، فكم بالحري الله البار؟

ولكن، ماذا يحدث إن لاقى الوالد الجفاء من ولده؟
ماذا يصيب قلب الأب حين يهجره طفله؟
+++
اقتحمت الثورة حياة يوسف كالتتار. بعد أن استخرجت مريم بطاقتها، قررت الفتاة أن توجه دفة حياتها بنفسها. ولم تتضمن هذه الحياة أباها.
كثيراً ما وبخ يوسف نفسه: وجب عليّ إدراك الأمر. ولكن وحياتي فاتني إدراكه في حينه!
لم يعرف يوسف كيف يواجه مراهقة إبنته الثائرة. لم يعرف كيف يواجه الملابس الضيقة والوشم على ذراعاتها العارية.
لم يعرف كيف يواجه سهرها خارج البيت وتدني مستواها الدراسي.
أما الخطب الجليل. فلم يعرف متى يتكلم ومتى يسكت.
على النقيض، كانت هي واثقة من كل شئونها. كانت تعرف متى تسكت – سبعة أيام في الأسبوع – ومتى  تتكلم – بقية الأسبوع.
كان الوضع مخنلفاً مع ذاك الشاب طويل الشعر، الذي يدلي من عنقه السلاسل ومن فمه السيجارة.
لم يكن في ذلك الفتى خير. وكم كان يوسف مدركاً لتلك الحقيقة المرة.
ولم تكن قوة على الأرض ستحمله على السماح لإبنته بقضاء ليلة العيد مع ذاك المتسكع.
- ستكونين معنا الليلة يا آنسة! أمام مائدة أبيك تأكلين ما أعدته جدتك! ليلة عيد الميلاد المجيد ستقضينها معنا في دار آلك!
ورغم أنهما جلسا إلى المائدة نفسها، إلا أن سنيناً ضوئية فصلت ما بين نفسيهما.
جلست مريم تحرك الطعام متململة أمامها. حاولت الجدة أن تحادث يوسف مروحة عنه، إلا أن ردوده كانت مقتضبة جوفاء.
فجزء منه كان يتميز غيظاً. وجزء كان محطماً. وبقية جوانحه كانت تئن معه، فكم كان يتمنى أن يحيي علاقته مع تلك الفتاة الجالسة قباله. تلك التي جلست في حجره طفلة من أعوام مضت وكأنها دهور.
سرعان ما وصل أقاربهم. وبسبب البرود العائلي الذي ابتلى تلك العائلة، لم يكن مزود المسيح المولود قد أُقيم بعد. تلقائياً، بحث أحد إخوة يوسف عن مجسم المزود حتى وجده، فوضعه إلى جانب الأب المجروح. ظناً ان في ذلك شرفاً لإبنته، قال يوسف: هل سترتبين المزود مع بابا الليلة؟
تأففت الفتاة العنيدة. وأمام العائلة كلها، إرتدت معطفها وخرجت، تاركةً أبيها وحيداً.
 وحيداً جداً.
+++

كما يقول الكتاب المقدس، هذا ما فعلناه مع أبينا السماوي. فقد رفضنا محبته. "كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ" (إشعياء 6:53).
يأخذ بولس الرسول تمردنا إلى ما هو أبعد من ذلك خطوة. فيقول أننا كنا أعداء لله (رومية 10:5). صعبة. العدو خصم. مبتغاه إيذاء خصمه، ليس عن جهل بل بإرادته.
وهل يتفق هذا الوصف وإيانا؟ هل حدث أن تمردنا على أبينا؟
هل حدث...
أن فعلت ما أنا مدرك في قرارة قلبي أنه ضد مشيئة الآب السماوي؟
أن آذيت إبناً من أبنائه؟
أن أيدت عمل عدوه الشيطان؟
أن تمردت علي أبي؟
لو كان ما سبق منطبقاً علينا، ألسنا كذلك في موقف العدو؟
فكيف يتصرف الله حين نصير أعداءه؟
+++
عادت مريم ذلك اليوم، ولكن عودتها لم تدم. ورغم ذلك، لم يلمها يوسف على شئ. بذل يوسف كل ما في وسعه لإستمالتها في أواخر أيامها معه. أعد لها غذاءها المفضل، اختلقت عذراً عن الأكل: عندي تلبك معوي حاد. شكراً، لن آكل. ابتاع لها ثوباً جديدا أنيقاً – لم تفضه من لفته أصلاً. حتى أنه دعاها لمشاهدة فيلم في السينما – اعتكفت في حجرتها وقد أدارت مفتاح باب الحجرة.
وفي يوم ربيعي عاد يوسف من عمله مبكراً ليكون في استقبالها حين تعود من كليتها.
في ذلك اليوم لم تعد مريم لبيت أبيها مطلقاً.
تلقى يوسف مكالمة تليفونية من إحدى زميلات مريم، أخبرته فيها أنها رأت مريم مع شاب يستقلان القطار المتجه للعاصمة. وأين ذهبا هناك. العلم عند علام الغيوب!
+++
من أشهر الدروب في فلسطين "فيا دولوروسا" أو "درب الأحزان". وفق التقليد (خصوصاً لدى الغرب) ذاك الطريق في القدس هو مسار المسيح حاملاً صليبه من دار بيلاطس وحتى الجلجثة. في الطريق أربع عشرة "محطة". كل منها تشير لخادثة ما، كسقطات المسيح تحت ثقل الصليب، ومقابلة سمعان القيرواني، إلخ.
أيمكن التحقق من دقة ذاك الطريق؟ في الأغلب، لا. فقد تعرضت أورشليم\القدس للتدمير عدة مرات، منها على يد تيطس عام 70م، ثم خُرِبَت ثانية عام 135م. فبالتأكيد انمحت معالم طرقات وشوارع المدينة. كنتيجة طبيعية، لا يعلم أحد المسار الحقيقي الذي سلكه المسيح من دار بيلاطس للجلجثة.
وإن كنا نعلم أين بدأ ذاك المسار.
بدأ المسار، لا من قاعة بيلاطس، ولا حتى من مزود بيت لحم، بل من قاعات السماء.
بدأ أبونا رحلته لحظة أن غادر بيته السماوي باحثاً عنا، كل ما يدفعه تحنن جياش ليفوز بقلبك. كانت رغبته أصيلة واحدة – أن يعيد أبناءه لبيت أبيهم. يصف الإنجيل ذلك السعي بكلمة واحدة: المصالحة.

وَلكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ.
(2 كورنثوس 18:5-19)

الكلمة اليونانية للفعل من "مصالحة" تعني حرفياً "أن يجعل الشئ عكس ما كان". أي أن المصالحة تربط ما قد انحل، وتصد ثورة التمرد، وتلهب العاطفة الخامدة.
تربت المصالحة على كتف التائه فتجذبه لصراط عودته.
 يخبرنا الطريق إلى الصليب، إلى أي مدى يصل الله ليعيدنا له.
+++
كان إبن عم ذلك الشاب الآبق مقيماً في العاصمة. كان يعمل دورية ليلية في حراسة أحد المنشآت. مقابل جنيهات قليلة سمح لقريبه وفتاته أن يبيتا في شقته ليلاً، لكن في الصباح يتركانها له.
وكم راق ذاك الإتفاق لهما! فقد كانت طموحاتهما وأحلامهما ضخمة. قرر الشاب أن يعمل في إحدى شركات صيانة التكييف، بينما كانت مريم واثقة من أنها ستجد عملاً في متجر ثياب. بالطبع لم تتعد خبرته بالتكييفات أكثر من حفظ اعلانات التكييفات المذاعة على التلفاز، أما هي فلم تكن لها أدنى خبرة بأي عمل كان – ولكن المرء لا يهتم بتفاصيل كتلك حين تثمله الحرية.
 ولكن بعد عدة أسابيع، غيَّر إبن العم رأيه. واليوم ذاته الذي أعلن فيه ذلك الرأي، إتخذ الشاب قراره أيضاً. وبذلك، وجدت مريم نفسها – بدون مقدمات – وحيدة، لتواجه ظلمات ليل العاصمة بلا مأوي  ولا سند.
 فكانت تلك الأولى من ليالٍ كثيرة.
سمعت مريم عن مأوى للمشردات قرب الجسر. لقاء جنيهات قليلة، تحصل على "صحن فول" و "مرتبة". ولم تكن الفتاة تمتلك سوى جنيهات قليلة.
كانت حقيبتها وسادتها وغطاؤها معطف كان – يوماً ما – جميلاً... ولم تتمكن مريم من النوم وسط زحام وضوضاء المأوى، فأدارت وجهها نحو الحائط. وللمرة الأولى منذ أسابيع، استحضرت في مخيلتها وجه أبيها وشاربه ونظارته الطبية. لكنها رفضت أن تبكي حين دمعت عيناها. مسحت دموعها، واودعت الذكرى عميقاً في داخلها. وصممت على عدم  الرجوع.
 فقد وصلت مريم إلى أبعد مدى. مدى لا يمكن من عنده العودة.
صبيحة اليوم التالي، أرتها إحدى فتيات المأوى "رزمة" لا بأس بها من الجنيهات. قالت أنها حصلت عليها من عملها في أحد الملاهي الليلية.قالت أنها حصلت عليها من عملها في أحد الملاهي الليلية.ها من الجنيهات.  اعة على التلفاز, أما هي فلم تكن لها أدنى خبرة بأي عمل كان - زلكن  عام 135م.المتجه للعاصمة.        
قالت الفتاة مبتسمة لمريم: هذا آخر يوم اقضيه في المأوى. معي الآن تكاليف مسكن خاص لي.
ثم: إنهم يريدون فتاة أخرى غيري في الملهى. لِمَ لا تجربين حظك؟ وأخرجت من جيبها علبة ثقاب مكتوب عليها عنوان. هاكِ عنوان الملهى.
اصابت تلك الفكرة مريم بالغثيان - فهي "بنت ناس" على كل حال – ولكنها تمتمت: سأحاول.
قضت مريم بقية الأسبوع هائمة على وجهها في الشوارع، تبحث عن عمل تكسب منه جنيهات قليلة. وعندما انتهى الأسبوع – ومعه نهاية الشهر – وحان موعد دفع أجرة المأوى، أخرجت من جيبها آخر ما كان به.
علبة الثقاب.
قالت لموظف المأوى بنبرة باردة: لن أقضي الليلة معكم ثانية. سلام. واستدارت عائدة للشارع.

للجوع أسلوبه في تليين لإرادة.
+++
الكبرياء والخزي. لن تصدق أنهما أخان. ربما يختلف مظهرهما. فالكبرياء ينتفخ، بينما ينكس الخزي رأسه. يبحث الكبرياء عن الأضواء، بينما يطلب الخزي الإختباء.
ولكن الإثنين من فصيلة واحدة. للإثنين الأثر نفسه. فالإثنان يمنعانك عن الآب.
يقهقه الكبرياء: أنت أفضل من أن تعود إليه. أنت لا تحتاجه.
ويتمتم الخزي: أنت أسوأ من أن تعود إليه. أنت لا تستحقه.
فالكبرياء يدفعك بعيداً، ثم يبقيك الخزي على بعدك.
إن كان كل سقوط يسبقه كبرياء، فالخزي يبقيك ساقطاً.
+++
على الأقل كانت مريم تعرف الرقص.
والآن، رجال في عمر والدها يشاهدون رقصها ومفاتنها.
لم تسغْ تلك الفكرة لها على الإطلاق – فهي لم تفكر فيها. كانت ببساطة تؤدي عملها لتأخذ جنيهاتهم.
ولم يشغل بالها سوى تلك الجوابات. فقد كان إبن العم ذلك يحضرهم. ليس جواباً أو إثنين، بل صندوقاً كاملاً. كلهم لها. كلهم من أبيها.
- أظن أن حبيبك قد أخبر والدك عن عنواني. هذه الجوابات تأتي لي بالثلاثة والأربعة أسبوعياً. عرفي اباك بعنوانك، سيكون هذا أسهل، ليراسلك مباشرة.
لا. لا يمكن أن تعرفه عنوانها، فسيجدها ويعرف ماذا تعمل.
ولا قدرت أن تفتح الجوابات. على أي حال، كانت تتيقن محتواها: أبوها يريدها في البيت.
لكنه لو علم بعملها في ذاك المكان، سيكف حتى عن إرسال الجوابات.
وياللعجب. وجدت ارتياحاً في الإحتفاظ بالجوابات دون أن تقرأها. فلم تقرأها ذلك الأسبوع، ولا الذي تلاه، بل احتفظت بها في خزانتها بحجرتها الملحقة بالملهى، مُرتبين وفق تاريخ ورودهم.
كانت تتلمسهم بأناملها، تمسكهم في يديها – لكنها لم تتحمل ان تفض مظروفاً منهم.
أغلب الأيام، كانت مريم تتمكن من وأد عواطفها. كانت تدفع بذكريات أهلها وأفكار الخزي في نفس الركن من قلبها. لكن، ظهررت أوقات صعبت فيها مقاومة الأفكار.
مثل ذلك اليوم الذي رأت ثوباً معروضاً في متجر. ثوباً كالذي ابتاعه لها أبوها. ثوباً بدا لها قبيحاً يوماً. على مضض وبعد عناء ارتدته ووقفت مع أبيها أمام المرآة. داعبها أبوها: رباه! ها قد ناهزتِ طولي! وتصلبت حين لمسها لمسة حانية على كتفها.
أواه. لو تستطيع لارتدت ألف فستان لتستشعر لمسته ثانية! فرت مريم من أمام المحل وقررت عدم المرور من ذاك الشارع ثانية.
مرت الأيام، وحل الخريف، وتساقطت أوراق الشجر. ظل بريدها الأسبوعي كما كان، واشتكى إبن العم، وفاضت الجوابات في الخزانة. ولا زالت الفتاة على رفضها أن تراسل أباها.ورفضت أن تفض مظروفاً من العشرات التي لديها.
وأخيراً، قبل عيد الميلاد المجيد بأيام قلائل، وصل جواب آخر. نفس الحجم. نفس اللون. ولكن بدون الطابع البريدي. ولم يحضره إبن العم. كان الجواب موضوعاً على مائدة. مائدة في الحجرة. الملحقة بالملهى الليلي.
حين رأت احدى الراقصات زميلات مريم الدهشة البادية على وجهها، قالت لها: لقد أحضره رجل ضخم قوي البنية له شارب ويرتدي نظارة طبية. سألني إن كانت هذه حجرة الراقصة مريم. طلب مني أن أتأكد من حصولك على هذا الجواب. قال أنك ستفهمين الرسالة.
- هل جاء هنا. إلى الحجرة؟
- نعم. وإلا فكيف قابلته؟
 هامت الدنيا بالفتاة البائسة. فضت مريم المظروف وأخرجت كارت. وقرأت...
"أنا أعرف مكانك... أعرف ما تعملين وكيف تعيشين... لا يغير  هذا مشاعري تجاهك...
فما قلته في كل جواب سابق لم يتغير."
- لكنني لا أعرف ماذا قلت!؟. وسحبت جواباً من خزانتها وقرأته. ثم آخراً. فآخراً. ففي كل جواب قرأت نفس الجملة. كل جملة كانت تسأل نفس السؤال.
وبعد دقائق، تغطت الأرض بالورق ووجهها بالدموع الساخنة.
بعد ساعة، كانت مستقلة القطار. "ربما أصل في الميعاد المناسب."
 وبالكاد وصلت في الميعاد.

كان الأقارب على وشك الرحيل. وقف يوسف في المطبخ يناقش أمه في أمر ما بعيداً عن صخب وضحكات اخوته بالخارج، حين نادته أخته من الخارج، حيث خيم صمت مطبق بغتة. "يوسف، هنالك من يطلب رؤيتك."
خرج يوسف من المطبخ، ليتسمر في مكانه. كانت الفتاة مريم واقفة، في يد حقيبتها، وبالأخرى كارت. وقرأ يوسف التساؤل في عيني إبنته.
- الإجابة بلى يا أبي. لو أن الدعوة سارية إلى الآن، فالإجابة بلى!
 لمع وجه يوسف بدمعه :يا إلهي. نعم. سارية. الدعوة جد سارية!
 وبهذا إتجه الإثنان إلى فسحة على الأرض، حيث كانت تماثيل ملونة صغيرة مكومة وقد كساها الغبار، وأخذا في نفضها وترتيبها.
 وقرب الباب، على الأرض جوار حقيبة سفر متهرئة، كان كارت مكتوب عليه إسم مريم وسؤال أبيها:
"ألا عدتِ إلى البيت لترتبي المزود مع بابا ثانية؟"

 +++


8. سأكسيكَ بثوبي - الوعد الإلهي في قميص المصلوب


 فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ، مُمَاتًا فِي الْجَسَدِ وَلكِنْ مُحْيىً فِي الرُّوحِ.
(1 بطرس 18:3)




بدا جلياً تعنت المسئول على رأيه. ما كان يعنيه أن هذا شهر العسل للعروسين. وما كان يهمه أن الدعوة للعشاء ذلك كانت هدية للعروسين من الأهل والأصدقاء. وما كان يعني له شئ أن العروسين صاما عن وجبة الغذاء كي يستغلوا ذاك العشاء الفخم خير إستغلال.
تضاءل واضمحل كل ذلك – بالنسبة للمسئول – أمام عائق جسيم واحد.
لم يكن الزوج السعيد مرتدياً بذلة رسمية.
لم يكن للعريس علم سابق بأهمية الزي الرسمي في المطعم الفاخر. فقد ظن قميص نطيف ورابطة عنق زرقاء جديدة كفيلين بالأمر. لكن هذا الرجل ذا رابطة العنق السوداء كان صارماً في تطبيق قواعد المكان.
وما كان أمام الزوجين خيار آخر. الوقت متأخر وأغلب المطاعم إما مغلقة أو مزدحمة وفرحة شهر العسل متلألئة. فقال العريس بإنكسار: من فضلك، تصرف.
تحول المسئول بنظراته بين الرجل وزوجته، ثم قال بضجر مفتعل: حسناً. إمهلني دقائق.
اختفى المسئول، وعاد بجاكيت. "إرتدِ هذا". أطاع الزوج الأمر. كانت الأكمام قصيرة والأكتاف ضيقة واللون ليمونياً مائلاً للاخضرار. ولكنه لم يشتكِ. فقد أمسى ومعه بذلته الرسمية. وارشدهما المسئول لمائدتهما، متمنياً لهما الهناء والشفاء.
ورغم كل صعاب الأمسية، فقد هنئا بعشاء رائع. وتعلما درساً جليلاً.
لم يكن للعريس سوى احتياجه للجاكيت. والمسئول لم تسمح له خلجات قلبه الطيب أن يرد العروسين، ولكن حسه المسئول وإخلاصه لدوره يحتم عليه ألا يتغاضى عن مقاييس المكان.
ولهذا، نفس الشخص الذي كان يطالب العريس بالبذلة وهبها له، ومنحهما مكانهما في الحفل.
أليس هذا ما جرى عند الصليب؟
ليس لدى الله أماكن لغير "المهندم". ولكن مَنْ منا ينافي هذا الوصف؟
سلوكيات غير مروضة. الحق مهمل. لا يوجد اهتمام خالص بالبشر. لباسنا الروحي رث.
نعم، المستوى المطلوب للجلوس إلى مائدة الله رفيع، لكن محبة الله لأبنائه أعلى.
فقدم لنا هدية.
لم يقدم جاكيت ليموني بل ثوباً. ثوب ارتداه إبنه الوحيد الجنس يسوع.
لم يذكر الكتاب المقدس الكثير عن ثياب يسوع المسيح. نعرف ما ارتداه يوحنا المعمدان. تصف التوراة ملابس رجال الدين بالتفصيل. ولكن ثياب المسيح لم يأتِ لها ذكر؛ فلا هي متواضعة تثير الشفقة ولا هي مترفة تحرك الأحقاد.
ولكننا نجد لمحة عن قميص المسيح جديرة بالذكر:


ثُمَّ إِنَّ الْعَسْكَرَ لَمَّا كَانُوا قَدْ صَلَبُوا يَسُوعَ، أَخَذُوا ثِيَابَهُ وَجَعَلُوهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، لِكُلِّ عَسْكَرِيٍّ قِسْمًا. وَأَخَذُوا الْقَمِيصَ أَيْضًا. وَكَانَ الْقَمِيصُ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ، مَنْسُوجًا كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:"لاَ نَشُقُّهُ، بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَكُونُ".  
(يوحنا 23:19-24)
وهذا كل ما نعرفه عن كسوة المسيح؛ أن القميص كان بلا خياطة منسوجاً من فوق لتحت.
لمرنم الشريراضع.. أن لسيح.من فوقكثيراً ما يصور الكتاب المقدس صفاتنا وخصالنا وكأنها ثيابنا. فنسمع بطرس الرسول موصياً إيانا أن "تَسَرْبَلُوا بِالتَّوَاضُعِ" (1 بطرس 5:5). ويذم المرنمُ الشريرَ الذي "وَلَبِسَ اللَّعْنَةَ مِثْلَ ثَوْبِهِ" (مزمور 18:109). فكانت ثياب يسوع ترمز لشخصه؛ بلا خياطة. شخصية متناسقة. موحدة. كمال غير منقطع.
مَنْسُوجٌ كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ. فقد كان يسوع مقوداً بإرادة أبيه. وهذا ما قاله بلسانه: "لاَ يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهذَا يَعْمَلُهُ الابْنُ كَذلِكَ" (يوحنا 19:5)، و "أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئًا. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ، وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ، لأَنِّي لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي" (يوحنا 30:5).
كانت شخصية يسوع بلا "خياطة"، نسيجها من السماء للأرض. من تدبير الآب لأعمال الإبن. من رأفة الآب لذبيحة الإبن. من إرادة الآب لكلمات الإبن. صورة واحدة كلية.
ولكن حينما سُمِّرَ المسيح بالصليب، وضع عنه رداء الكمال وتقلد مسوح الإهانة والخزي.
خزي العري. معرى أمام أمه وأحبائه ومهان أمام قومه.
خزي الفشل. فلساعات بطيئة أليمة، عاش رؤساء الكهنة دور المنتصرين، وظهر المسيح مغلوباً، مخزياً أمام متهميه.
والأسوأ، لفَّ المسيحَ خزيُ الخطية. "الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ" (1 بطرس 24:2).
وماذا عن غطاء المسيح على صليبه؟ الخطية – خطية البشرية جمعاء.
ببساطة، كان المسيح على الصليب تجسيداً لمعنى العار.
كان الصليب عقاباً بدنياً ومعنوياً. فقد كان الإعدام صلباً حكراً على أحط المعاقَبين: العبيد والأجانب إلخ. كان المتهم يساق في طرقات المدينة حاملاً عارضة صليبه على أكتافه، وتتدلى من عنقه لائحة بجريمته والحكم عليه. وعند موقع الصلب خارج المدينة يُعرى المتهم ويُنَّفذ الحكم.
لقد بات الصليب كريهاً حتى أن شيشرون الروماني كتب فيما كتب: "ليكن اسم الصليب بعيداً، ليس عن بدن الروماني فحسب، بل بالأحرى عن أفكاره وعينيه وأسماعه" (بتصرف).
ولم يكن المسيح مهاناً أمام الناس فقط، بل ذا موقف مشين أمام السماء. ولأنه حمل خطية القاتل والزاني، فقد نخسته رعدة القاتل وخزي الزاني. ومع أنه لم يكذب البتة إلا أنه في تلك الساعة خبر ارتباك الكاذب، ورغم أنه لم يغش مرة في حياته إلا أنه أحس خجل الغاش. فقد ذاق مرارة عار خطية العالم أجمع. فلا عجب إذاً حين نقرأ قول كاتب رسالة العبرانيين عن عاره الذي نحمله (عبرانيين 13:13).
فمتى كان يسوع على الصليب، أحس بعار وخزي المجرم، واختلجت نفسه بالإنزعاج الذي يؤرق كل مذنب.
لم يكن يسوع مذنباً ولا خاطئاً ولا  استحق الموت. أما أنا وأنت فأخطأنا واستحققنا الموت. لقد كنا في نفس موقف العروسين إياهم... فلم يكن لنا ما نقف به أمام الآب غير صلوة مرتجفة.
أما يسوع  فقد جاوز ما وصل إليه مسئول المطعم. أتتخيل أن يتجرد ذاك الرجل من معطف بذلته الرسمية فيلفه على كتف العريس المحتاج؟
هذا ما عمله يسوعنا. وبدلاً من جاكيت ليموني اللون ضيق، كسانا برداء نعمته؛ طهارة بلا شوائب. "اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا" (غلاطية 13:3)، فتدثر بخطاينا كي يلبسنا بره.
ورغم أننا قَدَمْنا إلى الصليب لابسين الخطية، إلا أننا نرحل عنه وقد اكتسينا بالبر كدرع (إشعياء 17:59)، متمنطقين بالبر (إشعياء 5:11)؛ إذ أن المصلوب قد ألبسنا ثياب الخلاص ورداء البر (إشعياء 10:61).
آمين! نرحل من لدن الصليب وقد لبسنا المسيح. "لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ" (غلاطية 27:3).
فلم يكفه أن يعد الوليمة.
ولم يكفه أن يحفظ لك مكاناً.
لم يكفه أن يغطي التكاليف ويعد وسيلة الإنتقال.
بل أكثر. لقد ألبسك ثيابه ليكسيك هندامه.
ففعل ذلك، لأجلك. إذ أن المصلوب قد ألبسنا ثياب الخلاص ورداء البر (إش10:61).

- يتبع - 

بقلم: ماكس لوكيدو
تعريب: افرايم القس بنيامين مرجان






 الآب غير صلوة مرتجفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق