الخميس، 12 أبريل 2012

الكتاب المقدس – هل من منافس؟ التحريف: شبهة وهمية 2: أحداث خميس العهد

اقرأ المقدمة (هنا) والجزء الأول (هنا)

يُعَرِّف المعجم الوجيز "التناقض" كالآتي:
  • (التَّنَاقُض) – (في المنطق): اختلاف اللفظين أو القضيتين اختلافاً يقتضي لذاته صدق إحداهما وكذب الأخرى، مثل: عليٌّ إنسان ولا إنسان.
  • (المُتَنَاقِضَانِ) – (في المنطق): المتقابلان إيجاباً وسلباً، بحيث لا يجتمعان ولا يرتفعان، مثل: حياةٌ ولا حياة. 

المعجم الوجيز، طبعة خاصة بوزارة التربية والتعليم، إصدار مجمع اللغة العربية، 1427هـ - 2006م.
ولا توجد حالة واحدة مما قدمها المعترض تحوي الشئ وعكسه، أو أمراً يقتضي عدم حدوث الآخر. كل ما في الأمر أن بعض الروايات تحوي من التفاصيل ما قد لا يأتي في رواية أخرى، كما يحدث في سرد شهود العيان لأي واقعة. وتكون الحقيقة إذاً والرواية النهائية بالتكامل بين الروايات كلها، لا بأخذ رواية واحدة كأنها تحوي الأحداث كلها، وتجاهل الباقيات!
يتكلم المعترض وكأن كاتبي البشائر قد سجلوا شهاداتهم بالاتفاق والتنسيق معاً، بينما في الحقيقة كتب هؤلاء بشاراتهم من مدن مختلفة وفي أزمنة متباينة (المزيد من التفاصيل لاحقاً في دراستنا لتاريخ مخطوطات الكتاب المقدس)، فمن الطبيعي أن يذكر كل منهم تفاصيل ربما لم يهتم بها الآخر، وكله تحت إشراف وضبط الروح القدس، داخل الإطار الذي حدده الوحي.
 جملة افتراءات على قصة أحداث خميس العهد حتى صباح جمعة الصَلب. قال المعترض:
1.      ذكرت الأناجيل الأربعة أن كهنة اليهود كانوا قد اتفقوا على قتل المسيح بعد عيد الفصح، حتى لا يحصل شغب بين الشعب في العيد، ولكن كتبة الاناجيل نسوا أو نقضوا ما اتفقوا عليه، فحكوا أن اعتقال المسيح وقتله وصلبه كان في العيد، ومن المعلوم أن اليهود لا يجيزوا فعل شيئ حتى فعل الخير في السبت والأعياد كما صرحت الاناجيل فثبت التناقض.
اتفق رؤساء اليهود فعلاً على ما ذكره المعترض: "وَكَانَ الْفِصْحُ وَأَيَّامُ الْفَطِيرِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يُمْسِكُونَهُ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُونَهُ، وَلكِنَّهُمْ قَالُوا:"لَيْسَ فِي الْعِيدِ، لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ" (مرقس 1:14-2). لكن، حين سعى إليهم يهوذا الخائن، سنحت لهم فرصتهم الذهبية: "ثُمَّ إِنَّ يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَاحِدًا مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ، مَضَى إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ. وَلَمَّا سَمِعُوا فَرِحُوا، وَوَعَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. وَكَانَ يَطْلُبُ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ فِي فُرْصَةٍ مُوافِقَةٍ" (مرقس 10:14-11)، فاقتنصوها دون تردد.
فات المعترض ملاحظة أن محاكمة المسيح بأكملها كانت ضد الشريعة اليهودية! اذكر مثلاً أنه لم يوجه أحد تهم للمسيح تستوجب القبض عليه، بينما تنص التوراة على أنه "لاَ يَقُومُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى إِنْسَانٍ فِي ذَنْبٍ مَّا أَوْ خَطِيَّةٍ مَّا مِنْ جَمِيعِ الْخَطَايَا الَّتِي يُخْطِئُ بِهَا. عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ عَلَى فَمِ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ يَقُومُ الأَمْرُ" (تثنية 15:19)، كما تمنع الميشناه عقد جلسات المحاكمات أثناء الليل (الميشناه، سنهدريم 1:4)، وهذا لم يمنع قادة اليهود من إجراء المحاكمة الصورية للمسيح في منتصف الليل.
2.      أورد كل من متى في (18:26) ولوقا في (8:22) قصة عشاء الفصح مع التلاميذ لكنهما وقعا في تناقض واضح؛ فعند متى أن التلاميذ شاركوا في إعداد العشاء (الآية 17)، لكن عند لوقا أن العشاء أعده إثنان فقط من التلاميذ وهما بطرس ويوحنا (لوقا 7:22). وكذلك عند مرقس أعد العشاء إثنان فقط من التلاميذ (13:14).
يجمل متى في ثلاث آيات:
"وَفِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْفَطِيرِ تَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ لَهُ:"أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ لَكَ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟" فَقَالَ:"اذْهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، إِلَى فُلاَنٍ وَقُولُوا لَهُ: الْمُعَلِّمُ يَقُولُ: إِنَّ وَقْتِي قَرِيبٌ. عِنْدَكَ أَصْنَعُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي". فَفَعَلَ التَّلاَمِيذُ كَمَا أَمَرَهُمْ يَسُوعُ وَأَعَدُّوا الْفِصْحَ" (متى 17:26-19) ما يفصله لوقا في ست آيات:
"وَجَاءَ يَوْمُ الْفَطِيرِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْبَحَ فِيهِ الْفِصْحُ. فَأَرْسَلَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلاً:"اذْهَبَا وَأَعِدَّا لَنَا الْفِصْحَ لِنَأْكُلَ". فَقَالاَ لَهُ:"أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ؟".‏ فَقَالَ لَهُمَا:"إِذَا دَخَلْتُمَا الْمَدِينَةَ يَسْتَقْبِلُكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ إِلَى الْبَيْتِ حَيْثُ يَدْخُلُ، وَقُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ: يَقُولُ لَكَ الْمُعَلِّمُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟‏ فَذَاكَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً. هُنَاكَ أَعِدَّا". فَانْطَلَقَا وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا، فَأَعَدَّا الْفِصْحَ" (لوقا 7:22-13).
كما نلاحظ اتفاق تفاصيل رواية مرقس (أيضاً ست آيات) مع شئ مما أجمله متى وما فصله لوقا:
"وَفِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنَ الْفَطِيرِ. حِينَ كَانُوا يَذْبَحُونَ الْفِصْحَ، قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ (راجع رواية متى):"أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نَمْضِيَ وَنُعِدَّ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟"‏ فَأَرْسَلَ اثْنَيْنِ (راجع رواية مرقس) مِنْ تَلاَمِيذِهِ" (مرقس 13:14-12). الروايات متكاملة لا متناقضة.  
3.      توقيت العشاء الأخير وأثره على قضية الصلب :يتفق (متى 26) و(مرقس 14) و(لوقا 8:22) على أن العشاء كان هو الفصح، وعلى العكس من ذلك نجد (يوحنا 28:18) يجعل الفصح يؤكل في المساء بعد موت المسيح. ويرى أغلب العلماء أن توقيت كل من متى ومرقس ولوقا صحيح، وأن يوحنا قد غير ذلك لأسباب عقائدية. ذلك أن يوحنا يقرر أن العشاء الأخير الذي حضره يسوع مع تلامذته كان قبل الفصح (1:14-5). وكذلك يقرر يوحنا أنهم قبضوا على يسوع في مساء اليوم السابق لأكل الفصح، وذلك في قوله: "ثُمَّ أَخَذُوا يَسُوعَ مِنْ دَارِ قَيَافَا إِلَى قَصْرِ الْحَاكِمِ الرُّومَانِيِّ، وَكَانَ ذلِكَ فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ. وَلَمْ يَدْخُلِ الْيَهُودُ إِلَى الْقَصْرِ لِئَلاَّ يَتَنَجَّسُوا فيأكلون الفصح" (يوحنا 28:18).
إن اختلاف الأناجيل في توقيت العشاء الأخير ترتب عليه اختلافهم في نقطة جوهرية تعتبر واحدة من أهم عناصر قضية الصلب، ألا وهي تحديد يوم الصلب، فإذا أخذنا برواية مرقس ومتى ولوقا لكان المسيح قد أكل الفصح مع تلاميذه مساء الخميس ثم كان القبض عليه بعد ذلك بقليل في مساء الخميس ذاته وبذلك يكون الصلب قد حدث يوم الجمعة .
أما الأخذ بإنجيل يوحنا فإنه يعني أن القبض كان مساء الأربعاء، وأن الصلب حدث يوم الخميس!
هذا اعتراض من أقواهم، إذ أن كثرة ودقة تفاصيل خلفيته التاريخية تكشف شدة جهل المعترض، كما تظهر مدى دقة كتبة البشائر وأصالة النص الذي بين أيدينا!
توضح التوراة تفاصيل الاحتفال بعيد الفصح، في (خروج 12). على رأس تلك الطقوس ذبح وأكل خروف الفصح، والشق الآخر من طقوس الفصح أكل "الفطير"، الذي هو خبز غير مختمر، كما جاء في الآيات 1-14، نذكر منها:
"فِي الْعَاشِرِ مِنْ هذَا الشَّهْرِ (نيسان) يَأْخُذُونَ لَهُمْ كُلُّ وَاحِدٍ شَاةً بِحَسَبِ بُيُوتِ الآبَاءِ، شَاةً لِلْبَيْتِ. وَيَكُونُ عِنْدَكُمْ تَحْتَ الْحِفْظِ إِلَى الْيَوْمِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ هذَا الشَّهْرِ. ثُمَّ يَذْبَحُهُ كُلُّ جُمْهُورِ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ فِي الْعَشِيَّةِ. وَيَأْكُلُونَ اللَّحْمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَشْوِيًّا بِالنَّارِ مَعَ فَطِيرٍ. وَلاَ تُبْقُوا مِنْهُ إِلَى الصَّبَاحِ. وَالْبَاقِي مِنْهُ إِلَى الصَّبَاحِ، تُحْرِقُونَهُ بِالنَّارِ."
بالرجوع إلى الأصل اليوناني لنص البشائر، نجد أن اللفظ المستخدم للـ "فطير" في (متى 17:26) و(مرقس 12:14) و(لوقا 1:22) هو azumon، بينما اللفظ المستخدم في اليونانية لوصف الخبز العادي (المختمر)، مثل معجزة الخمس خبزات والسمكتين (مرقس 1:8-9)، والصلاة الربانية "خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ" (متى 11:6) إلخ، هو arton.
وهنا بيت القصيد: كل روايات العشاء الأخير، "وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ" (متى 26:26) و"فِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ، أَخَذَ يَسُوعُ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَّرَ، وَأَعْطَاهُمْ" (مرقس 22:14) و"أَخَذَ خُبْزًا وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ" (لوقا 19:22) تستخدم لفظ arton!
إذاً كان "العشاء الأخير" وليمة عادية يأكلون فيها خبزاً كالمعتاد ويشربون عصير الكرم، غير وقبل وليمة الفصح التي يؤكل فيها طقسياً اللحم المشوي والفطير.
يظهر هذا أيضاً من قول المسيح لتلاميذه في (لوقا 15:22-16) "شَهْوَةً اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هذَا الْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ، لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ حَتَّى يُكْمَلَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ"، أي أن المسيح كان يود لو يأكل وليمة الفصح مه تلاميذه، لكن لم يأكلها معهم لأنه كان مصلوباً في وقت الفصح!
مرة أخرى، تتجلى دقة النص الأصلي الذي بين أيدينا إلى الآن في أدق التفاصيل التاريخية المتعلقة بتفاصيل الحياة في زمن الأحداث، ويتكامل متى ومرقس ولوقا ويوحنا في أخبارهم.
4.      جاء في (لوقا 13:22-39) وفي (يوحنا 38:13) أن المسيح أعلم بطرس أنه سينكره، وكان الإعلام أثناء عشاء فصح اليهود السنوي الذي ينبغي أن يصادف وقتئذ ليلة السبت، وفي داخل الغرفة وقبل مغادرته.
ولكننا نجد اختلافاً في (مرقس 26:14) و(متى 30:26)، فالإعلام بالإنكار كان بعد العشاء وبعد مغادرة الغرفة وفي الخارج بالطريق.
انظر إجابتنا على السؤال السابق بخصوص جزئية  " أثناء عشاء فصح اليهود السنوي الذي ينبغي أن يصادف وقتئذ ليلة السبت".
بمقارنة روايات البشائر الأربعة، نلاحظ من النصوص الكاملة أنها تسرد واقعتين متشابهتين (وربما ثلاث، حسب بعض الدارسين). فيتفق متى ومرقس في روايتيهما لتحذير المسيح لبطرس في الطريق إلى جثسيماني؛ نلاحظ التشابه الشديد إلى حد التطابق في عبارات المسيح وبطرس الرسول في الروايتين:
رواية (متى 30:26-35) "ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ. حِينَئِذٍ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِىَّ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ الرَّعِيَّةِ. وَلكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَدًا. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُني ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ! هكَذَا قَالَ أَيْضًا جَمِيعُ التَّلاَمِيذِ."
رواية (مرقس 26:14-31) "ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ. وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: إِنَّ كُلَّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ الْخِرَافُ. وَلكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ: وَإِنْ شَكَّ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ! فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَقَالَ بِأَكْثَرِ تَشْدِيدٍ: وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ! وَهكَذَا قَالَ أَيْضًا الْجَمِيعُ."
أما روايتي لوقا ويوحنا فتسردان تحذيراً مشابهاً (ويراهما بعض الدارسين تحذيرين مختلفين، وهو الرأي الأرجح) وإن كان مختلفاً، تم قبل الخروج إلى جثسيماني:
رواية (لوقا 31:22-39) "وَقَالَ الرَّبُّ: سِمْعَانُ، سِمْعَانُ، هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! وَلكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ. فَقَالَ لَهُ: يَارَبُّ، إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى السِّجْنِ وَإِلَى الْمَوْتِ! فَقَالَ: أَقُولُ لَكَ يَابُطْرُسُ: لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ تُنْكِرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَعْرِفُنِي. وَخَرَجَ وَمَضَى كَالْعَادَةِ إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ، وَتَبِعَهُ أَيْضًا تَلاَمِيذُهُ."
رواية (يوحنا 37:13-38 و31:14) "قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: يَا سَيِّدُ، لِمَاذَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَتْبَعَكَ الآنَ؟ إِنِّي أَضَعُ نَفْسِي عَنْكَ! أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَتَضَعُ نَفْسَكَ عَنِّي؟ اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ حَتَّى تُنْكِرَنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.‏ قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ ههُنَا.‏"
ويرجح الدارسون الآراء القائلة أن المسيح حذر بطرس ثلاثاً أنه سينكره (مرة جاءت في متى ومرقس، ومرة في لوقا، ومرة في يوحنا)، مقابل ثلاث مرات أنكر بطرس المسيح ، وثلاث مرات سأل المسيحُ بطرسَ بعد القيامة: "يَاسِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هؤُلاَءِ؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَارَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ارْعَ خِرَافِي. قَالَ لَهُ أَيْضًا ثَانِيَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَارَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ارْعَ غَنَمِي. قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأَنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: يَارَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ارْعَ غَنَمِي" (يوحنا 15:21-17).
وليس غريباً على بطرس الرسول أن يحتاج تلك التحذيرات المتكررة، وهو الذي ذكر عنه الكتاب المقدس مراراً تسرعه في الكلام والتصرف:
  • "فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقولُ لِيَسُوعَ: يَا سَيِّدِي، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً، وَلِمُوسَى وَاحِدَةً، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً. لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ إِذْ كَانُوا مُرْتَعِبِينَ" (مرقس 5:9-6).
  • "فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ قَائِلاً: حَاشَاكَ يَارَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هذَا! فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: اذْهَبْ عَنِّي يَاشَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ" (متى 22:16-23).
  • "ثُمَّ إِنَّ سِمْعَانَ بُطْرُسَ كَانَ مَعَهُ سَيْفٌ، فَاسْتَلَّهُ وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، فَقَطَعَ أُذْنَهُ الْيُمْنَى. فَقَالَ يَسُوعُ لِبُطْرُسَ: اجْعَلْ سَيْفَكَ فِي الْغِمْدِ!" (يوحنا 10:18-11).


5.      جاء في (يوحنا 9:18) قول المسيح: "إن الذين أعطيتني لم أفقد منهم أحداً" أي أن المسيح في هذا النص لم يفقد أحداً على الأطلاق ولكن حين ترجع أيها القارىء الفطن إلي (يوحنا 12:17) قبل هذا النص كان المسيح نفسه يقول: "حين كنت معهم في العالم كنت أحفظهم في اسمك. الذين أعطيتني حفظتهم، ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب" .
الاعتراض مبني على خطأ في الاقتباس – عمداً أو سهواً، لا أعلم – من بشارة يوحنا. صواب النص في (9:18) هو "إِنَّ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لَمْ أُهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدًا"، وهو وفق الأصل اليوناني للكلمة apolesa. وكم هو تعبير صحيح، فالمسيح لم يهلك أحداً، إنما "جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ" (لوقا 10:19)! أما يهوذا فقد اختار هو هلاكه بنفسه وبمحض إرادته واختياره الحر.
6.      المفهوم من (يوحنا 1:18-12) أن يهوذا الخائن كان دليلاً على الموضع الذي فيه المسيح، لكن المفهوم من (متى 47:26) أن يهوذا كان دليلاً على شخص المسيح. ويذكر متى أن يهوذا الخائن جعل بينه وبين الجند علامة وهي تقبيله للمسيح ليعرفوه، لكن يوحنا خالفه فذكر أن المسيح عرض نفسه دون علامة من يهوذا ودون تقبيل.
كالمعتاد، ينسى المعترض أن البشائر الأربعة تقدم كلٌ منها جزءاً من الصورة ، وحين تُقرأ النصوص معاً، تعطينا الصورة الكاملة بتفاصيلها المُجَمَّعة من الأربع روايات، دون أدنى تناقض بينها، بل تضيف كل رواية تفاصيل إلى مجمل خبر أحداث الواقعة:
رواية (متى 47:26-50) "وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ، إِذَا يَهُوذَا أَحَدُ الاثْنَيْ عَشَرَ قَدْ جَاءَ وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخِ الشَّعْبِ. وَالَّذِي أَسْلَمَهُ أَعْطَاهُمْ عَلاَمَةً قَائِلاً: الَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ. فَلِلْوَقْتِ تَقَدَّمَ إِلَى يَسُوعَ وَقَالَ: السَّلاَمُ يَا سَيِّدِي! وَقَبَّلَهُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: يَا صَاحِبُ، لِمَاذَا جِئْتَ؟ حِينَئِذٍ تَقَدَّمُوا وَأَلْقَوْا الأَيَادِيَ عَلَى يَسُوعَ وَأَمْسَكُوهُ."
رواية (مرقس 43:14-46) "وَلِلْوَقْتِ فِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ أَقْبَلَ يَهُوذَا، وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ، وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَالشُّيُوخِ. وَكَانَ مُسَلِّمُهُ قَدْ أَعْطَاهُمْ عَلاَمَةً قَائِلاً: الَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ، وَامْضُوا بِهِ بِحِرْصٍ. فَجَاءَ لِلْوَقْتِ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَائِلاً: يَا سَيِّدِي، يَاسَيِّدِي! وَقَبَّلَهُ. فَأَلْقَوْا أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ وَأَمْسَكُوهُ."
رواية (لوقا 47:22-54) "وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا جَمْعٌ، وَالَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا، أَحَدُ الاثْنَيْ عَشَرَ، يَتَقَدَّمُهُمْ، فَدَنَا مِنْ يَسُوعَ لِيُقَبِّلَهُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: يَا يَهُوذَا، أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟"
رواية (يوحنا 2:18-9) "وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ يَعْرِفُ الْمَوْضِعَ، لأَنَّ يَسُوعَ اجْتَمَعَ هُنَاكَ كَثِيرًا مَعَ تَلاَمِيذِهِ. فَأَخَذَ يَهُوذَا الْجُنْدَ وَخُدَّامًا مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ، وَجَاءَ إِلَى هُنَاكَ بِمَشَاعِلَ وَمَصَابِيحَ وَسِلاَحٍ. فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ تَطْلُبُونَ؟ أَجَابُوهُ: يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ. قَالَ لَهُمْ: أَنَا هُوَ. وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَيْضًا وَاقِفًا مَعَهُمْ. فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: إِنِّي أَنَا هُوَ، رَجَعُوا إِلَى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ. فَسَأَلَهُمْ أَيْضًا: مَنْ تَطْلُبُونَ؟ فَقَالُوا: يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ. أَجَابَ يَسُوع: قَدْ قُلْتُ لَكُمْ: إِنِّي أَنَا هُوَ. فَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوا هؤُلاَءِ يَذْهَبُونَ. لِيَتِمَّ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ: إِنَّ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لَمْ أُهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدًا."
إذاً، كان يهوذا مرشداً لمكان اجتماع يسوع بتلاميذه في حثسيماني تلك الليلة، وكانت القبلة لتعريف الجنود الرومان (السلطة الرسمية) بشخص المسيح، الذي كان معروفاً برؤيا العين لليهود فقط. قبَّل يهوذا المسيح، والذي وبخه بدوره على خيانته، ثم واجه يسوع العسكر معلناً هويته لهم ومانعاً لأي تنكيل بتلاميذه. وكان قول المسيح "إِنِّي أَنَا هُوَ" = ego eimi باليونانية إعلاناً للاهوته، إذ استخدم نفس الألفاظ التي نطق بها الله على جبل سيناء لموسى: "فَقَالَ مُوسَى ِللهِ: هَا أَنَا آتِي إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَقُولُ لَهُمْ: إِلهُ آبَائِكُمْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. فَإِذَا قَالُوا لِي: مَا اسْمُهُ؟ فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟ فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ" = ego eimi (راجع الترجمة السبعينية للعهد القديم هنا) (خروج 13:3-14)، فتراجع وتساقط الموجودون من هول إعلان لاهوت المسيح.
7.      أين ألقي القبض على المسيح؟ في جسثيماني (مرقس 32:14-43) أم في جبل الزيتون (لوقا 29:22-47)؟
جهل شديد بجغرافية القدس، فجثسيماني موجودة على سفح جبل الزيتون (راجع هنا)!
8.      اختلف رواة الاناجيل الأربعة في حكاية إنكار بطرس عدة اختلافات فاحشة. جاءت الحكاية في (متى 69:26-75) و(مرقس 66:14-72) و(لوقا 54:22-62) و(يوحنا 15:18-27). فنجد أن بطرس أنكر المسيح قبل محاكمته عند لوقا، أما عند متى ومرقس ويوحنا  فالإنكار بعد محاكمته.
أولاً: لو تأمل القارىء الفطن في حكاية الانكار برمتها، سيجد أنها مناقضة لما ورد في (لوقا 32:22) من خطاب المسيح لبطرس بقوله:"ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك، وأنت متى رجعت ثبت إخوتك"، وما ورد في (يوحنا 15:17) وملخصه أن المسيح سأل الله أن يحفظ تلاميذه من الشرير وأنه أعطاهم المجد الذي أعطاه إياه الله، ليكونوا واحداً. وقد قال المسيح لبطرس في (متى 17:16) "أنت صخر وعلى هذا الصخر سأبني كنيستي وسأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فما تربطه فى الارض يكون مربوطاً في السماء ". فإن صدقت هذه الرويات عن لوقا ويوحنا ومتى، كيف يصح لبطرس أن ينكر سيده ومعلمه ؟

انظر ردنا على السؤال رقم 3 في الجزء الأول من هذه السلسلة (هنا).

ثانياً: اختلفت الاناجيل في الذين قاموا بسؤال بطرس :
فعلى رواية متى التي سألته أولاً جارية، والتي سألته ثانياً جارية، والذين سألوه ثالثاً الرجال القيام .
وعلى رواية لوقا، التي سألته أولاً جارية، وثانياً رجل ، وثالثاً رجل آخر .
وعلى رواية يوحنا، التي سألت أولاً الجارية البوابة، وثانياً الرجال، وثالثاً واحد من عبيد رئيس الكهنة .
وهذا اختلاف فاحش وفي حادثة واحدة .


متى 69:26-75
مرقس 54:14-72
لوقا 55:22-62  
يوحنا 17:18-26
الإنكار الأول
أَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ جَالِسًا خَارِجًا فِي الدَّارِ، فَجَاءَتْ إِلَيْهِ جَارِيَةٌ قَائِلَةً: وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ الْجَلِيلِيِّ! فَأَنْكَرَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ قَائِلاً: لَسْتُ أَدْرِي مَا تَقُولِينَ!
‏وَبَيْنَمَا كَانَ بُطْرُسُ فِي الدَّارِ أَسْفَلَ جَاءَتْ إِحْدَى جَوَارِي رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. فَلَمَّا رَأَتْ بُطْرُسَ يَسْتَدْفِئُ، نَظَرَتْ إِلَيْهِ وَقَالَتْ: وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ! فَأَنْكَرَ قَائِلاً: "لَسْتُ أَدْرِي وَلاَ أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ!
وَلَمَّا أَضْرَمُوا نَارًا فِي وَسْطِ الدَّارِ وَجَلَسُوا مَعًا، جَلَسَ بُطْرُسُ بَيْنَهُمْ. فَرَأَتْهُ جَارِيَةٌ جَالِسًا عِنْدَ النَّارِ فَتَفَرَّسَتْ فيهِ وَقَالَتْ: وَهذَا كَانَ مَعَهُ! فَأَنْكَرَهُ قَائِلاً: لَسْتُ أَعْرِفُهُ يَا امْرَأَةُ!
فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ الْبَوَّابَةُ لِبُطْرُسَ: أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضًا مِنْ تَلاَمِيذِ هذَا الإِنْسَانِ؟ قَالَ ذَاكَ: لَسْتُ أَنَا!
الإنكار الثاني
ثُمَّ إِذْ خَرَجَ إِلَى الدِّهْلِيزِ رَأَتْهُ أُخْرَى، فَقَالَتْ لِلَّذِينَ هُنَاكَ: وَهذَا كَانَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ! فَأَنْكَرَ أَيْضًا بِقَسَمٍ: إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!
فَرَأَتْهُ الْجَارِيَةُ أَيْضًا وَابْتَدَأَتْ تَقُولُ لِلْحَاضِرِينَ: إِنَّ هذَا مِنْهُمْ! فَأَنْكَرَ أَيْضًا
وَبَعْدَ قَلِيل رَآهُ آخَرُ وَقَالَ: وَأَنْتَ مِنْهُمْ! فَقَالَ بُطْرُسُ: يَا إِنْسَانُ، لَسْتُ أَنَا!
وَسِمْعَانُ بُطْرُسُ كَانَ وَاقِفًا يَصْطَلِي. فَقَالُوا لَهُ: أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضًا مِنْ تَلاَمِيذِهِ؟ فَأَنْكَرَ ذَاكَ وَقَالَ: لَسْتُ أَنَا!
الإنكار الثالث
وَبَعْدَ قَلِيل جَاءَ الْقِيَامُ وَقَالُوا لِبُطْرُسَ: حَقًّا أَنْتَ أَيْضًا مِنْهُمْ، فَإِنَّ لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ! فَابْتَدَأَ حِينَئِذٍ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: إِنِّي لاَ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!
وَبَعْدَ قَلِيل أَيْضًا قَالَ الْحَاضِرُونَ لِبُطْرُسَ: حَقًّا أَنْتَ مِنْهُمْ، لأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضًا وَلُغَتُكَ تُشْبِهُ لُغَتَهُمْ! فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ!
وَلَمَّا مَضَى نَحْوُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَكَّدَ آخَرُ قَائِلاً: بِالْحَقِّ إِنَّ هذَا أَيْضًا كَانَ مَعَهُ، لأَنَّهُ جَلِيلِيٌّ أَيْضًا! فَقَالَ بُطْرُسُ: يَا إِنْسَانُ، لَسْتُ أَعْرِفُ مَا تَقُولُ!
قَالَ وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَهُوَ نَسِيبُ الَّذِي قَطَعَ بُطْرُسُ أُذْنَهُ: أَمَا رَأَيْتُكَ أَنَا مَعَهُ فِي الْبُسْتَانِ؟ فَأَنْكَرَ بُطْرُسُ أَيْضًا
ما بين الإجمال والتفصيل في الروايات (فحين يكتب "قال القيام" من البديهي أنه أحد الموجودين، وليس أن القيام كلهم نطقوا في نفس اللحظة معاً بنفس العبارة!)، تتكامل الأحداث كالمعتاد. الموضع الوحيد الذي قد يبدو لأول وهلة تناقضاً هو الإنكار الثاني بحسب روايتي مرقس ولوقا. فالقول في مرقس (وكذلك متى) منسوب لـ"جارية"، بينما في لوقا نُسِبَ لـ"آخر"، وفي يوحنا لجماعة لم يحدد لها هوية. بالتدقيق في القراءة يظهر سخف هذا الاعتراض، إذ أن الجارية في متى ومرقس وجَّهت كلامها للحاضرين لا لبطرس، بينما مَن وجَّه الكلام لبطرس في لوقا هو الرجل. مرة أخرى، تتكامل النصوص: فقد وشت الجارية للحاضرين ببطرس علناً، فوجهوا بدورهم السؤال لبطرس. أين التناقض؟!   
ثالثاً: كان بطرس وقت سؤال الجارية في ساحة الدار حسب رواية متى، وفي وسط الدار على رواية لوقا، وأسفل الدار على رواية مرقس، وداخل الدار على رواية يوحنا.

من الاعتراضات التي تكشف دقة النص الإنجيلي إذ يظهر أن كتابه عايشوا فعلاً البيئة التي كتبوا عنها، وشدة جهل المعترض!
جاءت النصوص في هذه الواقعة كالآتي، وبالعودة إلى الأصل اليوناني:
  • "أَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ جَالِسًا خَارِجًا فِي الدَّارِ aule" (متى 69:26).
  • "وَبَيْنَمَا كَانَ بُطْرُسُ فِي الدَّارِ أَسْفَلَ aule" (مرقس 66:14).
  • "وَلَمَّا أَضْرَمُوا نَارًا فِي وَسْطِ الدَّارِ aules وَجَلَسُوا مَعًا، جَلَسَ بُطْرُسُ بَيْنَهُمْ" (لوقا 55:22).
  • "وَأَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ وَاقِفًا عِنْدَ الْبَابِ خَارِجًا. فَخَرَجَ التِّلْمِيذُ الآخَرُ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَكَلَّمَ الْبَوَّابَةَ فَأَدْخَلَ بُطْرُسَ" (يوحنا 16:18).

بالعودة إلى معجم اليونانية (هنا) نجد أن الدار aule هي المساحة الغير مسقوفة حول المنزل، والمحاطة بسور المسكن نفسه والذي يجعلها ملحقة به، وكانت البيوت الارستقراطية (مثل سكن رئيس الكهنة) ذات "دارين" aule ، واحدة خارجية ما بين الطريق وباب المنزل (وكانت موقعاً لاسطبلات الخيل)، وواحدة داخلية تتوسط بنايات المنزل نفسه.
إذاً فقد كان بطرس في الـaule الخارجية، بدليل أنه أُدخِل إليها من عند البوابة (كما توضح رواية يوحنا)، والتي هي بالضرورة أسفل البنايات ذات الطابقين، كما يظهر الرسم التالي (Reconstruction of Annas' the High Priest's House):






رابعاً: اختلفوا في نوع الأسئلة الموجَّهة لبطرس :
فعند متى أن الجارية قالت له: "وأنت كنت مع يسوع الجليلي"، ومرقس مثله، لكنه أبدل لفظ الجليلي بالناصري، وعند لوقا أنها قالت: "وهذا كان معه"، أما يوحنا فذكر أنها سألته هكذا: "ألست أنت أيضاً من تلاميذ هذا الانسان ". ونحن نقول لما كانت الحادثة واحدة، كان ينبغي ألا تختلف نوعية الأسئلة من إنجيل لآخر.
انظر ردنا على (سادساً) و(سابعاً) في هذا الاعتراض. جدبر بالذكر أن الناصرة مدينة في الجليل، بل وتُسمى "ناصرة الجليل"، كما جاء في (مرقس 9:1) "وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يَسُوعُ مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ". فلا تعارض إطلاقاً بين ما جاء بقلم متى "وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ الْجَلِيلِيِّ!" (69:26)، وما جاء بقلم مرقس "وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!" (67:14). فهي مثل أن يروي شاهد أن شخصاً عاير آخر "بأنه صعيدي" ويقول شاهد آخر "بأنه من وجه قبلي"!
خامساً: اختلفوا في وقت صياح الديك. فعلى رواية متى ولوقا ويوحنا صاح الديك بعد مرات الانكار الثلاثة، وصاح مرة واحدة، وعلى رواية مرقس صاح الديك مرة بعد الانكار الأول، وصاح مرة ثانية بعد الانكار الثاني والثالث.
كالمعتاد، تظهر ادعاءات المعترض وتكامل النصوص بقرائتها معاً جنباً إلى جنب:
  • "أَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ جَالِسًا خَارِجًا فِي الدَّارِ، فَجَاءَتْ إِلَيْهِ جَارِيَةٌ قَائِلَةً: وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ الْجَلِيلِيِّ! فَأَنْكَرَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ قَائِلاً: لَسْتُ أَدْرِي مَا تَقُولِينَ! ثُمَّ إِذْ خَرَجَ إِلَى الدِّهْلِيزِ رَأَتْهُ أُخْرَى، فَقَالَتْ لِلَّذِينَ هُنَاكَ: وَهذَا كَانَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ! فَأَنْكَرَ أَيْضًا بِقَسَمٍ: إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ الرَّجُلَ! وَبَعْدَ قَلِيل جَاءَ الْقِيَامُ وَقَالُوا لِبُطْرُسَ: حَقًّا أَنْتَ أَيْضًا مِنْهُمْ، فَإِنَّ لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ! فَابْتَدَأَ حِينَئِذٍ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: إِنِّي لاَ أَعْرِفُ الرَّجُلَ! وَلِلْوَقْتِ صَاحَ الدِّيكُ. فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ يَسُوعَ الَّذِي قَالَ لَهُ: إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ تُنْكِرُني ثَلاَثَ مَرَّاتٍ" (متى 69:26-75).
  • "وَبَيْنَمَا كَانَ بُطْرُسُ فِي الدَّارِ أَسْفَلَ جَاءَتْ إِحْدَى جَوَارِي رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. فَلَمَّا رَأَتْ بُطْرُسَ يَسْتَدْفِئُ، نَظَرَتْ إِلَيْهِ وَقَالَتْ: وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ! فَأَنْكَرَ قَائِلاً: لَسْتُ أَدْرِي وَلاَ أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ! وَخَرَجَ خَارِجًا إِلَى الدِّهْلِيزِ، فَصَاحَ الدِّيكُ. فَرَأَتْهُ الْجَارِيَةُ أَيْضًا وَابْتَدَأَتْ تَقُولُ لِلْحَاضِرِينَ: إِنَّ هذَا مِنْهُمْ! فَأَنْكَرَ أَيْضًا. وَبَعْدَ قَلِيل أَيْضًا قَالَ الْحَاضِرُونَ لِبُطْرُسَ: حَقًّا أَنْتَ مِنْهُمْ، لأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضًا وَلُغَتُكَ تُشْبِهُ لُغَتَهُمْ! فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ! وَصَاحَ الدِّيكُ ثَانِيَةً، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ لَهُ يَسُوعُ: إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ" (مرقس 66:14-72).
  • "وَلَمَّا أَضْرَمُوا نَارًا فِي وَسْطِ الدَّارِ وَجَلَسُوا مَعًا، جَلَسَ بُطْرُسُ بَيْنَهُمْ. فَرَأَتْهُ جَارِيَةٌ جَالِسًا عِنْدَ النَّارِ فَتَفَرَّسَتْ فيهِ وَقَالَتْ:"وَهذَا كَانَ مَعَهُ! فَأَنْكَرَهُ قَائِلاً: لَسْتُ أَعْرِفُهُ يَا امْرَأَةُ! وَبَعْدَ قَلِيل رَآهُ آخَرُ وَقَالَ: وَأَنْتَ مِنْهُمْ! فَقَالَ بُطْرُسُ: يَا إِنْسَانُ، لَسْتُ أَنَا! وَلَمَّا مَضَى نَحْوُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَكَّدَ آخَرُ قَائِلاً: بِالْحَقِّ إِنَّ هذَا أَيْضًا كَانَ مَعَهُ، لأَنَّهُ جَلِيلِيٌّ أَيْضًا! فَقَالَ بُطْرُسُ: يَا إِنْسَانُ، لَسْتُ أَعْرِفُ مَا تَقُولُ! وَفِي الْحَالِ بَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ صَاحَ الدِّيكُ. فَالْتَفَتَ الرَّبُّ وَنَظَرَ إِلَى بُطْرُسَ، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ الرَّبِّ، كَيْفَ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ" (لوقا 55:22-61).
  • "أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَتَضَعُ نَفْسَكَ عَنِّي؟ اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ حَتَّى تُنْكِرَنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.‏ وَسِمْعَانُ بُطْرُسُ كَانَ وَاقِفًا يَصْطَلِي. فَقَالُوا لَهُ: أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضًا مِنْ تَلاَمِيذِهِ؟ فَأَنْكَرَ ذَاكَ وَقَالَ: لَسْتُ أَنَا! قَالَ وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَهُوَ نَسِيبُ الَّذِي قَطَعَ بُطْرُسُ أُذْنَهُ: أَمَا رَأَيْتُكَ أَنَا مَعَهُ فِي الْبُسْتَانِ؟ فَأَنْكَرَ بُطْرُسُ أَيْضًا. وَلِلْوَقْتِ صَاحَ الدِّيكُ" (يوحنا 38:13 و 25:18-27).

ببساطة، فصَّل مرقس تحذير المسيح لبطرس بأن الديك لن يتمم صيحته الثانية إلا ويكون بطرس قد أنكر ثلاثاً، بينما أجمل الباقون تلك التفصيلة، مهتمين فقط بحقيقة إنكار بطرس ثلاثاً قبل إتمام الديك صياحه. لو لم يذكر مرقس الصيحتين لفُهِمَ من متى ولوقا ويوحنا أن الديك صاح مرة بعد الإنكارات الثلاثة، لكن تفاصيل مرقس توضح وتصحح ذلك الاستنتاج المغلوط، في تكامل هو المعتاد بين البشائر الأربعة. جدير بالذكر أن التقليد المسيحي (التراث المسيحي الذي لم يَرد في الكتاب المقدس) يذكر أن مرقس استعان في تفاصيل بشارته ببطرس الرسول شخصياً، فلا عجب أن تحوي بشارة مرقس المزيد من التفاصيل في واقعة محورية في حياة بطرس نُقِشَت تفاصيلها في أعماق وجدانه كإنكاره للمسيح! (راجع إجابتنا على الاعتراض رقم 5 بخصوص عدد مرات تحذير المسيح لبطرس).
سادساً: في جواب بطرس للجارية التي سألته أولاً فحسب رواية متى انه قال: "لست أدري ما تقولين" وعلى رواية لوقا أنه قال: "لست أعرف يا امرأة"، وعلى رواية ويوحنا أنه أتى بلفظ لا النافية فقط .
سابعاً: في جوابه للسؤال عند الانكار الثالث، فعلى رواية متى ومرقس أنه أنكر مع القسم واللعن قائلاً: "إني لست أعرف الرجل"، ورواية لوقا: "يا إنسان لست أعرف ما تقول"، وفي إنجيل يوحنا أنه قال: "لست أنا.
للسؤالين (سادساً) و(سابعاً)، انظر مقدمة الجزء الأول (هنا) وإجابتنا على السؤال رقم 9 في الجزء الثالث من هذه السلسلة لاحقاً.
ثامناً: يفهم من رواية مرقس أن الرجال القيام وقت السؤال كانوا خارج الدار ويفهم من رواية لوقا أنهم كانوا في وسط الدار .وهكذا يسرد الحدث الواحد، في أكثر من إنجيل بشكل مختلف تماماً و متناقض.

انظر اجابتنا على السؤال (ثالثاً) أعلاه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق